في نطاق الإعلام الإسلامي – أيضاً- يأتي الترويح بعداً آخر لابّد من معالجته...ولئن كانت العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد ومنهج الله التشريعي المتوازن الوسطي ـ ضرورية للحياة كلها، لتنظيم الالتزام بأوامر الله، وتنظيم العلاقة بين الإنسان والإنسان بعامة والمسلم والمسلم بخاصة، كذلك فإن توازنية الحياة والطبيعة الإنسانية النفسية توجب قيام الإنسان بالترويح ساعة وساعة... بما يحفظ له الحيوية والقدرة الدائمة على العطاء.
الترويح الإعلامي.. ووسطية الإسلام
ولعل وسائل الإعلام ذات أهمية خاصة في تحقيق القدرة على العطاء والتكيف الاجتماعي من خلال وظيفة الترويح التي تقوم فيها بمهمة ملء أوقات الفراغ عند الجمهور بما هو مسلِ ومرفه، وهذا يتحقق بواسطة الأبواب المسلية في الصحف أو البرامج المضحكة في التليفزيون، وفي الحالتين تأخذ وسائل الإعلام في اعتبارها مبدأ واضحاً، وهو أن برامج الترفيه والتسلية ضرورية لراحة الجمهور ولجذبه إليها، لاسيما إذا كانت هذه الأبواب والبرامج ترفيهية موجهة يمكن عن طريقها الدعوة إلى بعض المواقف ودعم الاتجاهات أو تحريرها وحتى تغييرها.
وفي أحيان كثيرة تعطى برامج الترفيه نتائج عكسية، فتفقد قدرتها على التوجيه، وذلك عندما تسقط تلك البرامج في السطحية والابتذال، ومجرد الإثارة والإضحاك، ففي الوقت الذي يجب فيه عدم وضوح التوجيه في برامج الترفيه والتسلية كي لا يصبح الأمر عبئاً مرفوضاً من الجمهور، كذلك يجب تحاشى الإسفاف والسطحية خوفاً من أن تصبح تلك البرامج مرفوضة وتفقد جماهيرها.
وفي ضوء هذه الضوابط يعدّ موضوع الترويح ـ لاسيما في الإسلام ـ من أهم المجالات التي تحتل مساحة هامة في تفكير الإعلاميين والباحثين الحريصين على بناء الحياة الاجتماعية في ظل العقيدة والشريعة الإسلامية.
ولعلّ بعض الإعلاميين المسلمين يتساءلون عن مدى إباحة التصوير المجسم، وغير المجسم، وهل صحيح أن الرأي السائد أن التصوير الفوتوغرافي حلال دون الصور المجسمة، شريطة أن يكون موضوعه حلالاً في نطاق الشريعة ؟!
ويسألون عن التمثيل هل هو حلال في أصله حتى في ظهور المرأة ما لم يكن هناك خروج على القيم الإسلامية أو هو غير جائز؟
وما الرأي ـ كما يتساءلون ـ في الغناء والموسيقى، وهل الأصل فيهما هو الحلّ عندما يلتزم بعدم تحريك الشهوات، وبعدم وجود آلات مثيرة للغرائز، أو وجود جوّ عام يدل على العبث واللهو، وتبديد الأوقات، وشرب المحرمات... أو أنه غير جائز بالجملة ؟!!
لكن هذه التساؤلات ـ وغيرها ـ حول الترويح ونشاطاته المختلفة توجب الوعي ابتداءًً بموقف الإسلام من المفاهيم الترويحية المختلفة في نطاقها الإسلامي الوسطي.
فهذا الوعي يمثل أساساً إعلامياً يبني عليه الإعلاميون فنونهم التي يقدمونها في نطاقها الإسلامي الوسطي...
وموقف الإسلام هنا يتلخص في أن الترويح جزء من النظرية الإسلامية في التوازن، وإشباع كل الطاقات باعتدال، وهو داخل في قوله عليه السلام: "وإن لبدنك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه"، والأدلة على نظرية التوازن كثيرة فمن القرآن، قال الله تعالى: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} .
وهذا داخل في أصل بناء النظرية التوازنية بين الدنيا والآخرة في الإسلام، ومما يؤكد النظرية في جانب أهمية التمتع بالطيبات في إطار التقوى والحلال قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} .
وهناك جانب أساسي يدخل في دائرة التوازن ـ أيضاً ـ ويؤكد أهمية الترويح الحلال في حياة المسلم، وهو دور الجمال كدور أساسي في صياغة الإسلام للحياة، فإنه بتأثير من عصور التخلف ساد أمتنا وهم أن التربية الجمالية، بمعنى إدراك عناصر التناسق والنظام والانسجام في الأشياء والسلوك والكون ـ وفي العمليات العقلية والأشكال الفنية المباحة ـ إنما هو لون من الترف، أو هو أكثر من ذلك في تدنّيه.. ونحن نقول: كلا لم يحرم الإسلام الرؤية الجمالية، ولا هو حرم الفن لذاته ؛ بل حرم بعض الفنون وعلى رأسها فن النحت لاعتبارات معينة، وأصبح التحريم بعد ذلك قاطعاً ؛ لكن القرآن يلفت نظرنا في غير موضع إلى النواحي الجمالية في الكون والإنسان ـ إنه يقول لنا عن بعض الظواهر النباتية:
{انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
والعنصر الجمالي أساسي في فهم أجزاء الإنسان والكون، وفي استنباط كثير من قوانين الحياة والكون التي هي استكشاف لسنن الله الاجتماعية الكونية... وعلى هذا الأساس فبدون التربية الجمالية لن نستطيع استكشاف القوانين الكونية ولا معرفة النسبة بين الأشياء، وإن الوصول إلى مستوى الاستكشاف يحتاج إلى جهد كبير وتربية وجدانية وعقلية متوازنة، وكما يطلب من الشاعر أن يبذل الجهد في معرفة النسب الجمالية بين الكلمات، فكذلك يطلب من العالم الطبيعي أن يبذل طاقته في معرفة النسب بين أجزاء الأشياء المبثوثة في الكون حتى يصل إلى مرحلة استخلاص القوانين، وهذا كله مما يؤكد أهمية عنصر الجمال، وأهمية الترويح في نظرية التوازن الإسلامية التي
لا تنفصل عن الشريعة الإسلامية ، وهو ما يجب أن يقدمه الإعلامي المسلم على أساس أنه أحد الأسس والمفاهيم الإعلامية الإسلامية.
ومع هذا الذي ذكرناه حول الترويح ؛ نؤكد ضرورة الاهتمام في الشكل والإخراج والتمثيل بالقوانين الأخلاقية التي يجب أن تحكم بها هذه الوسائل، خاصة في مجال الترفيه، وبالذات السينما، لأنها أقل بكثير من المستوى الخلقي للرجل العادي، وكلنا يعرف تلك الأفلام التي يشرب الأبطال فيها الخمر كوسيلة لإزالة الضيق أو حتى باعتبارها مشروباً عادياً، مع أنها محرمة شرعاً، فتقديمها بهذا الشكل يشجع على انتشارها وعلى بث عادات سيئة خاصة في نفوس النشء؛ الذي يبحث عنها أو عن بديل لها بأي شكل، إذ أن الإعلام المرئي يمثل السحر في النفوس، وعلينا أن نتصور العقبات التي تضعها مثل هذه الأفكار في سبيل التنمية ؛ لأن الرجال هم قوام أي عمل تنموي ناجح، وإذا بددت طاقتهم وشغل وقتهم بمثل هذه التفاهات، وكونت شخصياتهم بطريقة هشة، فإن الأمل في نجاح برامج التنمية يكون ضعيفاً.
إن الأسس والمفاهيم الإعلامية يجب أن تلتزم بالمقاييس الأخلاقية وبالولاء للقيم الدينية، فالإسلام يقدم إيجابيات كثيرة، فهو يعلي قيمة العلم، ويطلب من المسلم أن يتم زرع الفسيلة التي بيده حتى إذا فاجأته الساعة وهو يزرعها، ويجعل مقياس تميز شخص على آخر هو ما يقدمه من عمل وجهد لربه ومجتمعه، وهو الذي يجعل العمل عبادة، ويجعل إتقان الفعل وإعمال الفكر فريضة دنيوية دينية، والإسلامية تتجلى أساساً في شكل العبادة بمفهوم التقرب والتوسل إلى الله سبحانه وتعالى ابتغاء مرضاته ووصولاً إلى رحمته، وكذلك فإن العمل الفني الحياتي التركيبي هو نوع من العبادة في الإسلام، ولذا سنجد أن كثيراً من الفنون الموسومة بالإسلامية كقراءة القرآن وتجويده والخط العربي هي ضرب من ضروب العبادة وتكريس لعظمة الخلاق وجلاله.
فالفن في الإسلام تمجيد للجلال وتسبيح بالجمال، وهو انتقال من الجميل إلى الجليل، وهدفه هو الوصول والتوسل للخالق سبحانه من خلال تصوير الجمال في الحياة وفي الكون الذي هو إبداع الخالق ...
وهذا الإسلام هو خير دافع إلى التنمية إذا ما أمكن للإعلام أن يعكس هذه القيم في أعمال فنية إعلامية جادة ، تخدم الجماهير وتدفعها إلى النهضة والتقدم.
مراجع واقتباسات
( ) د/عبد الحليم عويس: موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر، ط/ دار الوفاء ، الطبعة الأولى 2005م، مصر 3/512 ـ 514.
( ) أسامة القفاش: مفاهيم الجمال رؤية إسلامية ، ص: 15، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي – القاهرة.
( ) د/ جعفر عبد السلام: الإطار التشريعي للنشاط الإعلامي، ط/ دار المنار، القاهرة ، ط/ 1414هـ/ 1993م، ص: 202ـ 203.
شاهد ايضا