![]() |
| قصة العباس بن المسيب والدمشقي الأسير |
في أحد الأيام، بينما كان العباس بن المسيب، شرطي المأمون، في مجلس أمير المؤمنين ببغداد، وجد رجلًا مكبلًا. قال العباس: وعندما رآني أمير المؤمنين، خاطبني قائلًا: "يا عباس". فأجبت: "لبيك يا أمير المؤمنين!". فرد: "خذ هذا الرجل إليك، واعتن به، ثم أرجع به إلينا غدًا!". يقول العباس: دعوتُ جماعةً فحملوه، ولكن لم يستطع أن يتحرك!!، فقلت في نفسي: بما أن أمير المؤمنين أوصاني بالاحتفاظ به، فلا بد أن يكون معي في بيتي، فأمرتهم بوضعه في مجلسي في داري.
قصة العباس بن المسيب والدمشقي الأسير
من أنت؟ ومن أين أتيت؟
يقول العباس: ثم أخذتُ أسأله عن قصته وأحواله، ومن أين هو؟
فأجاب: أنا من دمشق.
فقلت: جزاها الله خيرًا، وأهلها، من أنت منهم؟
قال: عمَّن تسأل؟
قلت: هل تعرف فلانًا؟
قال: وكيف تعرفه؟
قلت: وقعت لي قضيَّة معه.
قال: لن أخبرك عن أخباره، إلا إذا أخبرتني بقضيتك معه أولًا.
قصة الرجل الدمشقي مع العباس:
فقلت: كنت مع بعض الولاة في دمشق، فثار أهلها علينا، حتى أن الوالي هرب في "قـُفَّة" من قصر الحجاج هو وأصحابه، فهربت معهم. وفي أثناء هربي، لحقت بي جماعة، فاستطعت أن أسبقهم. فمررت بالرجل الذي ذكرته لك، وكان جالسًا أمام داره. فقلت: أنقذني، أنقذك الله!
فقال: لا عليك، ادخل الدار، فدخلت.
فقالت زوجته: ادخل الحُجرة، فدخلتها (غرفة خاصة بالعروس)، وبقي الرجل على باب الدار، وفجأة دخل الرجال، وهم يقولون: "هو عندك!".
فقال: الدار لكم، فتّشوا! ففتَّشوها، ولم يبقَ إلا البيت الذي كنت فيه.
فقالوا: هنا! فصاحت بهم المرأة، فانصرفوا. وخرج الرجل بعد ساعة، وأنا في الحجرة أرتجف من الخوف.
فقالت المرأة: اجلس ولا تخف، فجلست. ثم دخل الرجل، وقال: لا تخف، لقد صرت في أمان إن شاء الله.
فقلت له: جزاك الله خيرًا. وبعدها عاملني خيرًا، وأحسن معاملتي، وأقام لي مكانًا في داره، واهتم بي، وأقمت عنده أربعة أشهر في أطيب عيش، إلى أن سكنت الفتنة.
فقلت له: هل تأذن لي بالخروج لأبحث عن رجالي؟ لعلي أعثر عليهم أو أعرف عنهم شيئًا؟ فأخذ عليّ عهدًا بالعودة إليه، فخرجتُ وطلبتهم، فلم أعثر عليهم، فعدت إليه وأخبرته، ومع ذلك لم يسأل عني، ولم يعرف اسمي، ولم يخاطبني إلا بالكنية.
ثم قال: ماذا تنوي أن تفعل؟
فقلت: أنوي الذهاب إلى بغداد.
فقال: القافلة تخرج بعد ثلاثة أيام، وقد أخبرتك.
فقلت له: لقد أحسنت إليّ طوال هذه المدة، وعليَّ عهد ألا أنسى فضلك، وسأجازيك ما استطعت. ثم دعا غلامًا أسود وقال له: جهّز الفرس، وجهّز أدوات السفر. فقلت في نفسي: لعله يذهب إلى ضيعة أو ناحية، فقضوا اليوم في تعب. وعندما حان موعد رحيل القافلة، أتاني في السحر، وقال: "يا أبا فلان، قم، فالقافلة ستتحرك قريبًا، وأنا لا أريد أن تبقى وحدك". فقلت في نفسي: كيف أفعل؟ وليس معي ما أتزود به أو ما أستعين به على ركوب الدابة!
ثم قمت، فإذا به هو وزوجته يحملون أفخر الثياب، وحذاءً جديدًا، وأدوات السفر. ثم أعطاني سيفًا ومنطقة وشدَّها في وسطي، وقدّم بغلًا عليه صناديق فوقها أغطية، وأعطاني نسخة من محتويات الصناديق، وفيها خمسة آلاف درهم. وقدّم لي الفرس، وهو عليه سرجه ولجامه، وقال لي: اركب. وهذا الغلام يخدمك ويهتم بحيوانك. ثم أخذ هو وزوجته يعتذران لي لعدم كفايتهم، ورافقاني وشيّعاني. ذهبت إلى بغداد، وأنا أنتظر أن أفي له بعهدي، وانشغلت مع أمير المؤمنين، فلم أتمكن من إرسال من يبحث عنه. لهذا أسأل عنه!
العباس يعرف الدمشقي:
وعندما سمع الرجل القصة، قال: لقد مكَّنك الله من الوفاء له، وجزائه على فعله، دون صعوبة. فقلت: وكيف ذلك؟
قال: أنا هو ذلك الرجل! ما أنا فيه من ضيق غيّر حالي. وعندها أخذ يذكّرني بأشياء، حتى تأكدت من هويته، فما تمالكت أن قمت إليه وقبّلت رأسه.
وقلت له: ما الذي أوصلك إلى هذا الحال؟
العباس والسبب في أسر الدمشقي:
فقال: حدثت فتنة في دمشق مثل تلك التي كانت في أيامك، ونُسبت إليّ. فأرسل أمير المؤمنين جيوشًا، وأصلحوا البلد. وقُمتُ بضربه، حتي كدت أموت. وأمري عند أمير المؤمنين عظيم، وهو سيقتلني لا محالة، وقد خرجت من عند أهلي دون وصية، وهناك غلمان سيذهبون إلى أهلي، وينقلون لهم الخبر، وهو نازل عند فلان. فإذا كان بإمكانك أن تجعل مكافأتك لي، بإرسال من يحضرهم، فستفي بعهدك!
فقلت: يصنع الله خيرًا. ثم أحضر العباس حدادًا في الليل، ففك قيوده وأزال أغلاله، وأدخله حمّام داره، وألبسه الثياب التي يحتاجها، ثم أرسل من أحضر غلامه. وعندما رآه، بكى وأوصاه، فاستدعى العباس نائبه، وأمر بإحضار الأفراس والهدايا، ثم أمر بتشييعه إلى حدود الأنبار!
فقال له: ذنبي عظيم عند أمير المؤمنين، وإذا ادّعيت الهرب، فسيرسل في طلبي كل من على بابه، فيُعاد ويعذب حتى يقتلني، فقال العباس: أنقذ نفسك، ودعني أدبّر أمري. فقال: لا أبرح بغداد حتى أعرف مصيرك! وإن احتجت إليّ، فأنا هنا. فقال العباس: إن كان الأمر كذلك، فلتكن في المكان كذا، فإن نجوت غدًا، سأعلمك، وإن قتلت، فقد حميتك بنفسي.
جزاء المعروف بالمعروف:
ثم تفرغ العباس لنفسه، وجهز له كفنًا، قال العباس: لم أنته من صلاة الصبح إلا ورسل المأمون يطلبونني، ويقولون: أحضر الرجل معك! فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين، فوجدته جالسًا ينتظر.
فسأل: أين الرجل؟ فسكتّ!
ثم صرخ: أين الرجل؟
فقلت: يا أمير المؤمنين، استمع إليّ.
فقال: عليّ عهدٌ، إن قلت أنه هرب، لأضربنّ عنقك!
فقلت: لا والله، ما هرب، ولكن اسمع حديثي، ثم افعل ما تشاء بي!
قال: قل.
فقلت: يا أمير المؤمنين، كان من أمري كذا وكذا. وقصصت عليه القصة كاملة، وشرحت له رغبتي في الوفاء له، وقلت: أنا وأنت يا أمير المؤمنين، بين أمرين، إما أن تعفو عني، فأكون قد وفيت، وإما أن تقتلني، فأكون قد حميته بنفسي، وها هو كفني.
فلما سمع المأمون القصة، قال: ويلك! لا جزاك الله خيرًا، لقد فعل بك هذا من غير معرفة، وأنت تكافئه بعد المعرفة بهذا؟ هلا أخبرتني، لكافأناه بدلا منك!
فقلت: إنه هنا، وأقسم ألا يبرح حتى يعرف سلامتي. فإن احتجت إليه فهو موجود. فقال المأمون: هذا أفضل من الأول. اذهب إليه الآن، وطيب نفسه، وأحضره إليّ لأكافئه.
فذهبت إليه، وقلت: اطمئن، فقد قال أمير المؤمنين كذا وكذا. وعندما مَثُل بين يدي أمير المؤمنين، أقبل عليه، وأجلسه بجواره، وحدّثه. وعندما حضر الغداء، تناول الطعام معه، وخلع عليه، وعرض عليه أعمال دمشق، فاعتذر عنها، وأمر له بعطايا عظيمة، وأسقط الضرائب عن أرضه، وأرسل إلى عامله بدمشق بالوصية به.
شاهد ايضا
.webp)
تعليقات
إرسال تعليق