يعدّ موقف الإعلام الإسلامي من الحضارة الإسلامية دائرة أساسية في نطاق هذا الإعلام يجب أن يوليها اهتماما كبيراً.
الإعلام... والحضارة الإسلامية
- ويؤكد المؤرخ العالمي الموسوعي (ول ديورانت) في موسوعته (قصة الحضارة) أن المسلمين عاشوا ـ من خلال حضارتهم المتفوقة ـ أساتذة العالم لعشرة قرون....
ـ والحق أنه لولا الحضارة الإسلامية لما كانت الحضارة الأوربية، ولما دخلت البشرية عصر المعرفة (اقرأ باسم ربك)، ولبقيت سادرة في ظلام العصور الوسطى... فالإسلام.. وحضارته أحدثا تحولاً في التاريخ الإنساني كله، فبعد أن كان الإنسان عابداً للطبيعة أصبح مسخراً لها، وبعد أن كان العلم يبغّض فيه بواسطة رجال اللاهوت... أصبح تحصيل العلم عبادة يتقرب بها إلى الله... كما أصبحت قراءة الكون ومعرفة تجليات الله فيه عبادة متميزة....
ويعترف الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا بفضل الحضارة الإسلامية الجذري على الحضارة الأوربية، وذلك في كلمته التي ألقاها في جامعة (أكسفورد) في شهر أكتوبر من العام 1993م؛ حيث يقول: "إذا كان الغرب يسيء فهم طبيعة الإسلام، ولا يزال هناك جهل كبير حول ما تدين به حضارتنا وثقافتنا للعالم الإسلامي. إنه نقص نعانيه من دروس التاريخ الضيق الأفق الذي ورثناه، فالعلم الإسلامي في القرون الوسطى من آسيا الوسطى إلى شاطئ الأطلسي كان يعج بالعلماء ورجال العلم ولكن بما أننا رأينا في الإسلام عدواً للغرب وثقافته الغربية بنظام حياتها ومجتمعها، فقد تجاهلنا تأثيره الكبير عل تاريخنا، فلنأخذ ـ مثلاً ـ كيفية تقليلنا من أهمية 800 سنة من التراث الإسلامي في أسبانيا بين القرنين 8، 15 فلا مفر من الاعتراف بمساهمة أسبانيا المسلمة في الحفاظ على الدراسات الكلاسيكية في العصور المظلمة والانطلاقات الأولية لعصر النهضة، ولكن أسبانيا المسلمة كانت أكثر من مخزن للحضارة الأغريقية، التي التهمها العالم الغربي المعاصر إذ لم تقتصر أسبانيا المسلمة على جمع وحفظ المحتوى الثقافي للمدنيتين الإغريقية الرومانية فحسب، ولكنها قامت بتفسيرهما والتوسع فيهما، وأسهمت من ناحيتها في الجهد البشري في عدة قطاعات في العلوم والفلك والرياضيات والجبر (وهي كلمة عربية بحد ذاتها) والقانون والتاريخ والطب وعلم المستحضرات الطبية والبصرية والزراعية والهندسية المعمارية والدين والموسيقى... لقد رعى الإسلام وحافظ على السعي وراء العلم والمعرفة... وفي القرن العاشر كانت قرطبة أكثر مدن أوربا حضارة.
ويقول الأمير (تشارلز) أيضاً: (كثيرة هي السمات واللمسات التي تعتز بها أوربا الحالية التي هي فعلاً مقتبسة من أسبانيا المسلمة: الدبلوماسية والتجارة الحرة، والحدود المفتوحة، وأساليب البحث الأكاديمية في علم أصل الإنسان، والأتيكيت والأزياء والأدوية البديلة والمستشفيات، فكل هذه وصلتنا من هذه المدنية العظيمة، وكان الإسلام في القرون الوسطى معروفاً بالحلم والتسامح عندما كان يسمح لليهود والمسيحيين بممارسة شعائرهم الدينية، واضعاً ذلك مثالاً، لم يتعلمه الغرب لسوء الحظ لعدة قرون. إن الأمر العجب هو وجود الإسلام في أوربا كجزء منها منذ
أمد طويل، أولاً في أسبانيا، ثم في البلقان، وكذلك مساهمته في حضارتنا التي كثيراً ما نعتقد خطأ بأنها حضارة غربية كلياً.
إن الإسلام جزء من ماضينا وحاضرنا في جميع ميادين الجهد البشري، لقد ساعد الإسلام على تكوين أوربا المعاصرة فهو جزء من تراثنا، وليس شيئاً مستقلاً بعيداً عنا".
ومع ما في شهادة الأمير (تشارلز) من وضوح وشمولية تكفيان في بيان تألق الحضارة الإسلامية وفضلها على الحضارة الغربية ـ إلا أننا نرى اللوحة تزداد تألقاً عندما نضيف إليها شهادة المستشرق الدنماركي (جوستاف جرونباوم) حول المعطيات الحضارية للإسلام فيقول: "في ظل القيم الأساسية للإسلام يطرح الإسلام أسئلة جوهرية ثلاثة، ويقدم إجابته عليها وهي: كيف تعيش حياة صحيحة؟ وكيف تفكر تفكيراً صحيحاً؟ وكيف تقيم نظاماً صحيحاً؟ ويضيف قائلاً: "لقد قدّم الإسلام أجوبة على هذه الأسئلة في التربية الصحيحة للفرد، والترتيب النسبي لمناشط الإنسان، وتحديد القصد والمجال بالنسبة لسلطة الحكم أو ممارسة القوى السياسية، وكذلك بنى الإسلام نظاماً للقيم يتناول الواجبات والحقوق في السلوك الفردي والسلوك الاجتماعي وعلاقات الفرد بقرابته أو بالجماعة كلها .
ولم تكن ثمرات الحضارة التي أرسى دعائمها الإسلام في حياة المسلمين مقتصرة عليهم وحدهم ؛ بل تجاوزت حدودهم وبلغ تأثيرها غيرهم.
لقد كان تأثير القيم الحضارية للإسلام عاماً وشاملاً ضمن ثلاث دوائر يكمل بعضها الآخر، وتؤسس في مجموعها منظومة متكاملة لبناء النموذج الحضاري الإسلامي، وهذه الدوائر الثلاث هي: (دائرة الإنسان، ودائرة المجتمع، ودائرة العالم)...
ومن البديهي أن قيمة التوحيد هي القاعدة الأساسية للإيمان ولطبيعة الحضارة الإسلامية، فالإسلام يعطي مساحة واسعة لتوضيح صلة الإنسان بالخالق عز وجل من خلال التعريف به وصفاته وكيفية عبادته ودعائه، وتوجيه مشاعر الإنسان نحوه، وتتسم العلاقة (بينهما) بالحب والطاعة، خلافاً لمشاعر الأمم الأخرى التي اعتبرت نفسها في صراع مع الآلهة التي اخترعتها كاليونان؛ حيث نازعوا آلهتهم للحصول على أسرار الطبيعة، ولا زالت وريثتهم: "الحضارة الغربية" تعبر بـ "قهر الطبيعة"، وبـ"موت الإله" في أدبياتها وفلسفاتها الحداثية .
ويجلّي المفكر الإسلامي (علي عزت بيجوفيتش) رئيس جمهورية البوسنة والهرسك السابق ـ خاصية التوحيد الفارقة للإسلام فيقرر في كتابه القيّم: (الإسلام بين الشرق والغرب): أن الغرب بشقيه الديني والمادي ـ لم يفهم رسالة
الإسلام، ولم يدرك طبيعته، فهو يقول: "إن موقف الإسلام "الوسط" يمكن إدراكه من خلال حقيقة أن الإسلام كان دائماً موضع هجوم من الجانبين المتعارضين: الدين والعلم.
فمن جانب الدين (اللاهوتي) اتهم الإسلام بأنه أكثر لصوقاً بالطبيعة والواقع مما يجب، وأنه متكيف مع الحياة الدنيا.
ومن جانب العلم (المادي) اتهم بأنه ينطوي على عناصر دينية وغيبية.
وفي الحقيقة يوجد إسلام واحد فحسب، ولكن شأنه شأن الإنسان له روح وجسد .
وفي مقابل حضارتنا الإنسانية التي سادت العالم لعشرة قرون تقدم الحضارة الأوربية نموذجاً عنصرياً استعلائياً مادياً عزائزياً تعاني منه البشرية أشد المعاناة.
ويعد المفكر الفرنسي المسلم (رجاء جارودي) من أكثر المفكرين الغربيين نقداً للحضارة الغربية ونموذجها عندما أعلن "انتحار" هذه الحضارة، وقال: "لقد انتحرت الحضارة الغربية بسبب أنه خلال القرون الخمسة المنصرمة لم تعد الحضارة الغربية إلحادية فحسب؛ بل أصبحت تتصف بالشرك: فالنمو والجنس والعنف والمال والقومية غدت غايات في ذاتها، وبتعبير آخر أصبحت آلهة مزيفة لهذه الحضارة".
وهذا يعني أن الزعم بـ "عالمية" النموذج الحضاري الغربي يتناقض مع تلك الدعوات المتعالية من بعض مفكري الغرب الناقدين لحضارتهم والمطالبين بالبحث عن بدائل حضارية أخرى، فضلاً عن ذلك فإن هذا الزعم ينمّ عن روح استعلاء تتقمص المروجين له وتتفق مع نظرة راسخة في عقول كثير من الغربيين تؤمن بـ "مركزية" الغرب وتفوقه على الآخرين !
ـ وهنا ـ وفي ضوء ما قدمناه ـ يجب على الإعلام الإسلامي أن يجاهد في مجال التعريف بأيادي الحضارة الإسلامية على الإنسانية، وفي مجال بيان ما تقدمه الحضارة الإسلامية لعالمنا المضطرب اليوم...
وأول ما يعطيه الإسلام ـ بعد عقيدة التوحيد - أنه لا يفرق بين الناس بحسب ألوانهم وأعراقهم وأجناسهم وأزمانهم ؛ حيث يقرر القرآن هذه الحقيقة الخالدة بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
ومن القيم الحضارية التي أرساها الإسلام ضمان الحقوق الأساسية للإنسان وعلى رأسها حرية الاعتقاد؛ حيث ينص القرآن على أنه: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}.
ويدعو الإسلام إلى العلم البناء الهادف لعبادة الله وبناء الحياة، ويعلي من شأنه على نحو فريد لا تجده في أي دين آخر، فطلب العلم فريضة، والمسلم يدعو ربه قائلاً:{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
الإعلام... والحضارة الإسلامية.....شاهد الفيديو
